سورة الشورى - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)} [الشورى: 42/ 15- 19].
في الآية الأولى: {فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ} عشرة أوامر ونواه، كل واحد منها مستقل بذاته، أولها أمران: ادع أيها الرسول إلى مبدأ وحدة الدين المتفق عليه، واستمر على هذه الدعوة، واستقم على عبادة اللّه، وتبليغ الرسالة، فهي شملت جميع الطاعات وتكاليف النبوة، هذا مع العلم بأن النبي بحسب قوته في تنفيذ أمر اللّه تعالى مطالب بتمام الاستقامة، وهذا ما دعاه أن يقول: «شيبتني هود وأخواتها».
لأن فيها {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ} [هود: 11/ 112] وأما أمته فقال لهم النبي بحسب ضعفهم: استقيموا ولن تحصوا.
ثم جاء النهي: وهو لا تتبع أيها الرسول أهواء المشركين فيما افتروه واخترعوه من عبادة الأصنام والأوثان، ووقعوا فيه من شكوك وتحريفات. ثم أمر اللّه نبيه أن يقول: صدّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء التي أنزلها اللّه على أنبيائه ورسله، من التوراة والإنجيل والزبور، وصحف إبراهيم وموسى وشيث.
وأمر اللّه نبيه أن يعلن أيضا بأن يعدل بين الناس مهما اختلفت أديانهم بالحق والعدل، في القضاء والحكم إذا ترافعوا إليه.
وأمره أيضا أن يقول: ليس اللّه إلها لشعب دون شعب أو قوم دون قوم، كما يعتقد اليهود بأن الإله هو إله بني إسرائيل، فالله المعبود بحق لا إله غيره، هو إله المسلمين وربهم، وإله غيرهم، وخالقهم وخالق الناس جميعا.
وأخبر اللّه تعالى أن ثواب أعمال المسلمين وعقابهم خاص بهم، لا يتحملها عنهم غيرهم، وكذلك ثواب أعمال غيرهم وعقابها خاص بهم، ويبرأ كل فريق من الآخر وأعماله، كما جاء في آية أخرى: {قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)} [سبأ: 34/ 25].
ومن مضمون الخبر أو الأمر: {لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ} أي لا خصومة بين الفريقين، لأن الحق قد ظهر كالشمس، والخبر أو الأمر التاسع والعاشر: أن اللّه يجمع بين الجميع في المحشر يوم القيامة، فيقضي بينهم بالحق في خلافاتهم، فإليه مصير جميع الخلائق.
ثم أوضح اللّه تعالى بطلان حجة المجادلين في دين اللّه، وهم الذين يخاصمون في دين اللّه بعد استجابة الناس له، ودخولهم فيه، حجتهم زائلة باطلة عند ربهم، وعليهم غضب عظيم من اللّه لمجادلتهم بالباطل، ولهم عذاب شديد يوم القيامة.
نزلت آية {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} حينما قال المشركون بمكة للمؤمنين: قد دخل الناس في دين اللّه أفواجا، فاخرجوا من بين أظهرنا، فعلام تقيمون بين أظهرنا؟! ثم رد اللّه تعالى على المجادلين: بأنه سبحانه هو الذي أنزل جميع الكتب السماوية على الرسل إنزالا ملازما للحق، مشتملا عليه، مقترنا به، وأنزل مبدأ الميزان، أي العدل والتسوية والإنصاف، ليحكم به بين البشر، وسمي العدل ميزانا، لأنه آلة الإنصاف والمعادلة، فليعمل كل واحد بقاعدة العدل، قبل الحساب، وما يعلمك أيها الرسول وكل مخاطب أن مجيء القيامة قريب الحصول، فيحاسب كل امرئ على ما قدّم.
لكن يتعجل المشركون غير المؤمنين بالقيامة بقدومها، استهزاء وعنادا وتكذيبا، وأما المؤمنون فهم خائفون من وقوعها، ويعلمون أنها كائنة لا محالة، وأن وقوعها حق ثابت لا محيد عنه.
ألا تنبه أيها السامع بأن الذين يجادلون في مجيء القيامة، ويخاصمون في شأنها مخاصمة شك، لفي بعد وجهل ومتاهة عن الحق.
وما أروع ما جاء بعد هذه الآيات لفتح باب الأمل والرجاء والرحمة: وهو بيان أن اللّه كثير اللطف بعباده، ومن ألطافه أنه يرزق جميع عباده، بحسب مشيئته، لا فرق بين برّ وفاجر، ومن غير ضعف، ولكن اللّه عظيم القوة، باهر القدرة، يغلب كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
العمل للدنيا والآخرة:
من أبرز خصائص الإسلام: أنه يحض أبناءه على العمل للدنيا والآخرة، وهذا دليل الوسطية والعدل والوعي. وأنه قضى على الوثنية في شبه جزيرة العرب، بسبب حملته الشديدة على المشركين، ووعيدهم بالعذاب، وإنذارهم به لولا تأخيره في الحكم الأزلي لإعطائهم الفرصة لإصلاح عقائدهم، وأدى ذلك إلى الحكم بإيقاع العذاب بالظالمين، ونجاة المؤمنين وتبشيرهم بجنان الخلد. وفي ثنايا الحملة على أهل الشرك رد قاطع على افترائهم بأن القرآن ليس من كلام اللّه تعالى، وترغيب لهم ولغيرهم بالمبادرة إلى التوبة والاستجابة لنداء الحق والإيمان، حتى يظفروا بمزيد فضل اللّه تعالى، ويتعرض الكافرون للعذاب الأليم. قال اللّه تعالى موضحا هذه الخصائص:


{مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)} [الشورى: 42/ 20- 26].
المعنى: من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة، نقويه ونغنيه، ونجزيه أحسن الجزاء، ومن كان يريد الحصول على شؤون الدنيا وطيباتها، وإهمال شؤون الآخرة، نعطه ما قضت به مشيئتنا، وليس له في الآخرة حظ. والمؤمن الصادق الواعي من يعمل للدنيا والآخرة، كما قال ابن عمر رضي اللّه عنهما: «احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا». وقوله تعالى: {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} وعد منجز.
بل إن المشركين لهم أعوان من الشياطين، شرعوا لهم ما لم يشرعه اللّه، مثل تحريم بعض السوائم وتخصيصها للأصنام، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار ونحو ذلك من الضلالات.
ولولا القضاء الإلهي السابق بتأخير العذاب في هذه الأمة إلى يوم القيامة، لقضي بين المؤمنين والمشركين، وعجلت عقوبة المشركين، ولكن للظالمين المشركين العذاب المؤلم الشديد في الآخرة، كما قال اللّه تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)} [القمر: 54/ 46]. فقوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} استئناف كلام.
ثم ذكر اللّه تعالى وصف هذا الجزاء الأخروي، وهو أنك ترى بالعين المجردة الكافرين المشركين خائفين مضطربين يوم القيامة، مما عملوا من السيئات في الدنيا، والجزاء واقع نازل بهم لا محالة، أما الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا صالح الأعمال منهم يتمتعون في روضات الجنان، لهم ما يشتهون عند ربهم، من ألوان النعم والملذات، وذلك هو الفضل الذي يفوق كل فضل في الدنيا. والروضات:
المواضع البهية النّضرة، وهي في الأغلب مرتفعة، وهي ممدوحة عند العرب. وكلمة {عِنْدَ رَبِّهِمْ} العندية للتشريف والمكانة، لا المكان المادي أي الجوار المحسوس.
وهذا الجزاء للمؤمنين حتمي الوقوع، وهذا الجزاء هو الذي يبشر اللّه به عباده المؤمنين الذين يعملون صالح الأعمال، أي إن تلك البشارة لمن قرن أو جمع بين الإيمان والعمل بما أمر اللّه، وترك ما نهى عنه.
ثم أمر اللّه تعالى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بالترفع والسمو عن أعراض الدنيا، فيقول لقومه: لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا ولا مكافأة ولا نفعا ماديا، إلا أن تودوني لقرابة بيني وبينكم، فتكفوا عني أذاكم. قال ابن عباس وغيره: لم يكن في قريش بطن إلا ولرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيه نسب أو صهر. فالآية على هذا هي استعطاف ودفع أذى سلامة منهم.
قال قتادة: قال المشركون: لعل محمدا فيما يتعاطاه يطلب أجرا، فنزلت هذه الآية، ليحثهم على مودّته ومودّة أقربائه. والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به ابن عباس فيما رواه البخاري وهو: «إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة».
لأن الآية مكية، ولم يكن بين علي وفاطمة زواج إلا بعد بدر، من السنة الثانية من الهجرة.
ثم ذكر اللّه تعالى: ومن يعمل حسنة، نزد له فيها حسنا، أي أجرا وثوابا، وإن اللّه يغفر الكثير من السيئات، ويكثّر القليل من الحسنات، ويضاعف الثواب للمحسن.
بل أيقولون: افترى محمد على اللّه كذبا بادعاء النبوة ونزول القرآن، وهذا إفك مفترى، يرد اللّه عليه بأنك يا محمد لو افتريت على اللّه كذبا، لطبع على قلبك، فيمحو اللّه الباطل، ويثبّت أو يحق الحق بكلماته ويؤيده. إنه سبحانه عليم بما تكنه الصدور من حديث النفس ووساوس القلب.
وللترغيب في الصلاح: أن اللّه يقبل من عباده التوبة عن الذنوب، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون من خير أو شر. ويستجيب اللّه للذين آمنوا، وأطاعوا ربهم، ويزيدهم من فضله ونعمته على ما طلبوه منه، وأما الذين كفروا بالله وبنعمته فلهم عذاب شديد مؤلم.
قسمة الأرزاق:
لا تغيب العناية والرعاية الإلهية عن المخلوقات طرفة عين، فالله تعالى يقسم الأرزاق بحسب علمه وحكمته، وبتصريف قدرته، فينزل الغيث وينشر رحمته، ويرسل الرياح فتسوق السحب إلى مواضع نزول القطر، ويبث الدواب البرية والبحرية والجوية في أنحاء السماوات والأرض، ويسيّر الفلك أو البواخر بمشيئته وتوفيقه، ويعلم المجادلين في آيات اللّه، علما بأن متاع الدنيا فان، والآخرة خير وأبقى، فلا يغتر أحد بالدنيا، وإنما يعمل بما يسعده في الآخرة، مفوّضا أمر النتائج لله عز وجل، وهذه سنة اللّه في مدده وعطائه، كما تصورها هذه الآيات الشريفة:


{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 42/ 27- 36].
نزلت آية {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ} فيما أخرجه الحاكم وصححه عن علي: في أصحاب الصّفّة، وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا والغنى، وقال خبّاب ابن الأرتّ: فينا نزلت هذه الآية- أي في أهل الصفة- وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فتمنيناها.
المعنى: لو وسّع اللّه الرزق على عباده، ومنحهم فوق حاجتهم، لحملهم ذلك على البغي والطغيان، وعصوا في الأرض، كما حدث من قارون وفرعون، ولكنه تعالى ينزّل الرزق لعباده بتقدير معين، على حسب مشيئته، وبمقتضى حكمته، إنه سبحانه خبير بأحوال عباده، بصير بما يصلحهم من توسيع الرزق وتضييقه.
هذا إعلام من اللّه تعالى: أنه لو جاء الرزق على اختيار البشر واقتراحهم، لكان سبب بغيهم وفسادهم، ولكنه عز وجل أعلم بالمصلحة في لكل إنسان، وله بعبيده خبرة وبصر بأخلاقهم ومصالحهم، فرب إنسان لا يصلح إلا بالفقر، وآخر بالغنى.
والغيث سبب الرزق، فينزل اللّه المطر بعد يأس الناس في وقت حاجتهم إليه، وينشر رحمته، أي المطر على الأراضي، وهو المتولي أمور أو شؤون عباده بالإحسان إليهم، وجلب النفع لهم، ودفع الشر عنهم، وهو المحمود على نعمه الكثيرة.
وكل ذلك يتم بمعيار دقيق من الإله الحكيم القدير، ومن دلائل عظمة اللّه وقدرته وسلطانه: خلق السماوات والأرض على هذا النحو البديع، وما نشر وفرّق في السماوات والأرض من الدواب المتحركة، ويشمل ذلك الملائكة والإنس والجن، وسائر أنواع الحيوان، واللّه تام القدرة على جمعهم في صعيد واحد، وحشرهم يوم القيامة.
وقد يحتجب الرزق بسبب المعاصي، وما أصابكم أيها الناس من المصائب، كالآلام والأسقام، والقحط والغرق، والصواعق والزلازل ونحوها، فإنما هي بسبب سيئات اقترفتموها، ومعاص ارتكبتموها، فهي عقوبات الذنوب وكفاراتها في الدنيا، ويعفو اللّه عن كثير من المعاصي، فلا يعاقب عليها.
جاء في الحديث الذي أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهما عن الحسن البصري: «لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو عنه أكثر».
ولستم أنتم أيها المذنبون الكافرون بمعجزين اللّه حيثما كنتم، ولا تتمكنون من الإفلات من العقاب، فبنو آدم عجزة قاصرون ضعفاء، وهم في قبضة القدرة الإلهية، ولا يمكنهم الفرار من طلب ربهم.
ومن آيات قدرة اللّه وسلطانه: إجراء السفن السائرة في البحار كالجبال، سواء أكانت شراعية أم بخارية أم كهربائية أم ذرية، وإن يرد اللّه إيقاف السفن الجارية، يجعل الرياح ساكنة، والطاقة متعطلة، فتصبح السفن ثوابت رواكد على ظهر البحر، لا تسير ولا تتحرك، إن في أمر إجراء السفن في أعالي الموج والماء لدلالة عظيمة على قدرته تعالى، لمن كان كثير الصبر على الشدائد وعلى طاعة اللّه، كثير الشكر على النعمة. وإن يشأ اللّه يهلك أو يتلف السفن بالغرق بما كسب ركابها من البشر، أي بذنوب البشر، ويعف عن كثير من ذنوبهم، أو عن كثير منهم، فينجيهم من الغرق، ويعلم اللّه الذين ينازعون في آيات اللّه، ويكذبونها، ولا يتمكن أحد من الفرار أو المهرب أو النجاة من عذاب اللّه.
وما أروع ما عقب اللّه تعالى على هذه الآيات: وهو التحذير من الاغترار في الدنيا، فما أعطيتم من الغنى والسعة في الرزق والجاه والسلطان، فإنما هو متاع قليل في الدنيا، وما عند اللّه من ثواب الطاعة ونعيم الجنة خير من متاع الدنيا، وأبقى وأدوم، لأنه لا ينقطع ولا ينقص، أما متاع الدنيا: فهو ينقطع أو ينقص بسرعة، وبقاؤه لأهل الإيمان الصحيح بالله ورسوله، وعلى ربهم يعتمدون في كل شؤونهم.
قال علي رضي اللّه عنه: تصدّق أبو بكر رضي اللّه عنه بماله كله، فلامه جمع، فنزلت الآية: {فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ}.
جاء في الحديث أنه أنفق ثمانين ألفا.
صفات أهل الجنة:
لم يترك القرآن الكريم شيئا إلا أوضحه وأعلنه، فذكر صفات أهل النار وأسباب استحقاقهم للعذاب، وذكر صفات أهل الجنة وما أهّلهم للنعيم والثواب، وهذه الصفات الطيبة: هي الإيمان بالله إلها واحدا، والتوكل عليه بعد اتخاذ الأسباب، واجتناب الكبائر من الذنوب والعفو عند المقدرة، وإطاعة اللّه وترك نواهيه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والتشاور في الأمور كلها، والشجاعة والقوة في استرداد الحقوق المغتصبة، وقد نصت الآيات الكريمة الآتية على هذه الصفات، لضرورة الاتصاف بها، قال اللّه تعالى:

1 | 2 | 3 | 4